بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 5 أغسطس 2011

حدث ذات يوم في حماة


حدث ذات يوم في حماة

من Nadia Hanna‏ في 04 أغسطس، 2011‏، الساعة 07:23 صباحاً‏‏
أمسك يدي أمام ناعورة الكيلانية... شعرت بالحب يغمرني... لم تكن المرة الأولى التي أشعر فيها بالحب... لكنها المرة الأولى التي يأتي فيها الحب بطعم الحرية....  حماة... يا محلاها الحرية... 

خرجنا مساءً من دمشق باتجاه حماة... تلك المدينة التي سمعت عنها الكثير وارتبطت بذاكرة كل واحد مننا بشكل من الأشكال، ولكنني لم أكن قد زرتها يوماً من قبل... كان شوقي لأراها بحلتها الجديدة الليلة يحتل جسدي... نظرت إليه... سنكون خلال ساعتين ونصف في عالم من الحرية التي لم نذقها قبل اليوم... كان جميع أصدقائنا يعيشون الحالة ذاتها، حتى الحمويون منهم.... سنخرج اليوم من زحمة المخبرين، وتجار البشر والكلام... سنخرج اليوم لنعلن انتماءنا للسماء.... 

وصلنا المدينة، وكان سكانها قد توافقوا على حظر التجول بعد منتصف الليل.... مررنا بالحواجز التي أقامها السكان، والتي كانت خاويةً تماماً، فلم يستوقفنا أي أحد، ونحن نسير نحو المنزل الذي سيستضيفنا في منطقة السوق... 

كان مضيفنا شاباً في منتصف العشرينات يعيش مع عائلته، كنت قد تعرفت عليه إثر جمعة أطفال الحرية، حيث كان يروي لي أحداث المجزرة التي حصلت يومها، وكيف كان يتهاوى بين جثث الشهداء... شابٌ يجعلك تنساب بين ملامحه القاسية حتى تصدمك دمعةٌ رقيقةٌ في عينيه... دمعةٌ تبحث عن وطنٍ من حب... استقبلتنا شقيقته الصغرى بضحكتها الواسعة، وضيافتها الرائعة، وشقيقه الأصغر المتسمر أمام شاشة التلفاز طوال اليوم... سهرنا جميعاً طوال الليلة... وكأن النهار تأخر كثيراً... وفي كل لحظة كان الانتظار يزداد شغفاً.... متى اللقاء ... متى اللقاء؟؟

لا أعلم كيف غفونا، وكيف صحونا... إلا أنني أذكر رائحة القهوة التي تسللت إلى غرفة البنات.... تلك القهوة التي أعدتها والدة صديقنا، فخرجنا لنشرب معها... كانت السعادة التي في قلوبهم ووجوههم تشعرك بأن شيئاً مؤلماً لم يمر من هنا... وكأن الحرية تحرر الذاكرة أيضاً من تراكم الآلام والانكسارات....  في تلك اللحظات جاءت فتاتان صغيرتان تعيشان بالطابق الأعلى، ودخلتا لينظرن من هؤلاء الغرباء.... كانت الأصغر بينهما  يتيمة الأب وهي لا تتجاوز السادسة، والأكبر قريبة لها.... وبعد أن تحدثتا إلينا، تبادلتا حواراً فيه من الطرافة مافيه من الغرابة والألم... نظرت الصغرى للأكبر وقالت لها بلهجة تهكمية "أصلاً أنا أبي مات"... تبرمت الأكبر ووضعت يدها على خاصرتها وقالت بلهجة تحدي: "وشو يعني، بكرة بابا بيتقوص بالمظاهرة وبيموت"... 

الساعة الواحدة والنصف ظهراً.. إنه الموعد... خرجنا من المنزل وكنا خمس أشخاص... وبدأنا بالمشي نحو الهدف... الجميع يتجهون للوجهة ذاتها... سيارات "سوزوكي" مملوءة بالناس تغني بالهتافات الشهيرة على الطريق... عبارات كثيرة تملأ الجدران.... بدأ الصوت يهدر... "الشعب يريد إسقاط النظام"... رغم أنهم لم يتجاوزوا عشرات الآلاف بعد... شعرت لحظتها بشيء من نكران الواقع... وربما كان شعوري حينها غير قابل للتفسير... فقد أربكتني الحرية... ولم أستطع استيعابها...ثوانٍ ووصلنا... ساحة العاصي... وكأن النهر تحرك من مجراه... وحطّ وسطها... نهرٌ يهدر بالبشر... بحناجر قوية مليئة بالإصرار... وفي وسط الساحة راية عالية كتب عليها "الشعب يريد إسقاط النظام"... وعلى الطرف الأيمن من جانب مبنى المحافظة تقريباً مسرح صغير، وعليه "عدة الصوت"... والمنظمون الذين يقودون الأناشيد والهتافات... صعدنا إلى أحد المباني لنشاهد المنظر من الأعلى... وخلال لحظات تحولت الأرقام لمئات ألوف... بدخول العلم الكبير على أكتاف القادمين من الجوامع الأخرى... ليلتف حاملوه بطريقة فنية، جعلت شكله من الأعلى يبدو أِشبه بنجمةٍ حول مركز الساحة.... الجميع يشاركون... رجال وشباب... نساء وأطفال وشيوخ... الجميع يغني... "يا وطننا يا غالي"... "سوريا بدا حرية"... وأغنيات أخرى.... 

لم نحتمل الوقوف أكثر في البناء، ونزلنا الساحة، كان تجمع النساء الأساسي قرب مبنى المحافظة في المكان الأقل تعرضاً للشمس الحارقة... وعلى قدر ما كان المشهد من الأعلى يوحي بصعوبة الوصول للمكان، على قدر ما كان الوصول سهلاً، فقد فتح لنا الجميع الطريق ما أن رأوا مجموعةً من الفتيات... حتى النسوة أفسحن لنا الطريق ورحبن بنا، وبدأن يتسائلن من أين أتينا... وما أن علمن باننا من دمشق، حتى علت صيحات الفرح بينهن... 

وقفنا في الطرف النسائي وعلى بعد أقل من مترين منا كان أصدقاءنا الشباب يقفون... لم نكن قد تحررنا من خوف حناجرنا بعد رغم كل شيء... إلى أن صاحوا... "بالروح بالدم نفديكي فلسطين"... فانفجرت معهم.... تلتها تحية لثوار اليمن "يا يمن حماة معاكي للموت" وأخرى لثوار ليبيا.. "بنغازي حماة معاكي للموت".... ليحيوا حينها كل المحافظات والمناطق السورية،  وبعدها كانت الأغنيات الشهيرة والشعارات التي كنا نشاهدها ونسمعها على الإنترنت..

"تكبير... الله أكبر"...

لا أعلم لماذا أخرجت شالاً وغطيت رأسي، نظرت إلى جواري فوجدت أن صديقاتي فعلن بالمثل... شيء غريب أشعرنا بأننا في حضرة قدسية وسط هذا الهدير العظيم من التكبير، فكرةٌ ما كنت لأقبلها يوماً... لكنها أتت بكل بساطة وعفوية بطعم الحرية ذاتها...  كانت الحالة الجماعية تشعرك برهبة تفوق الإدراك، فمثلاً كل ما مرت أقل من ثلاث دقائق حتى ترى قوارير الماء تأتي من الرجال لقسم النساء، والجميع يملأون الماء لبعضهم البعض... الكل كان يداً واحداً... شاب يافع في حوالي الحادية عشر من العمر، كان قد خلع سترته، وكتب بالأحمر على كتفه "حرية" كان يقوم بدور "المايسترو" لطرفنا... والحماسة تملأه... كان مدركاً لمعنى الحرية والثورة أكثر مننا بكثير... 

أعلن المتظاهرون فض المظاهرة لتنظيف الساحة، والاستعداد للمظاهرة المسائية عقب صلاة العشاء... تحركنا من أماكننا واتجهنا للمناطق الأثرية في حماة... وفي كل زاوية مكانٌ لضحكة... وعند كل حجر فتى يحمل علماً ويغني... كانت المدينة في أبهى صورها... نظيفةً حرةً سعيدة... دون وجود أي شكل من أشكال الدولة الرسمي... من عناصر أمن أو شرطة أو أي شيء من هذا... كانوا ينظمون أمورهم بطريقة حضارية... بوعي لم أكن لأتخيله يوماً....

جلسنا بين النواعير... ونهر العاصي يلفنا من كل صوب... حالةٌ من العشق في عمق مدينة الآزاديين... وللحياة رائحةٌ من فرح... حيث يختبأ الجلادون... ويسقط الخوف... ليعانق التاريخ ذاته... تاريخ يعرفه العاصي جيداً... وتاريخٌ يكتب اليوم... وكان يعرف أنه سيأتي... في يومٍ واحدٍ صرنا أجمل... صار لحياتنا هدفٌ أكبر... صرنا نعرف كيف تكون المدن الحرة... 

"سأقبلك بين النواعير... وسأنجب منك شعوباً من الأطفال أهبهم للحرية...أحببتك في طريق الثورة... أحببتك أكثر... حين أدركت الحرية... ستحفظ هذه الطرقات وجوهنا... وسنحفظ حجارتها... ستسألنا يوماً ماذا تعلمنا... سنخبرها أننا تعلمنا الحب"... أرخيت رأسي على كتفه لأشعر بعشقٍ لم أشعره يوماً... يداي بين يديه... وأصواتنا تغني للحرية، ونحن نستحضر كل مخزوننا من الأغنيات الثورية... أغنيات لربما كانت لتتسبب باعتقالنا إن كنا في دمشق... لكنها تغنيها بأعلى صوتك هنا... وبكل حب... 

تعرفنا على مجموعة من الأشخاص الذين أخبرونا على ذكريات الأشهر الفائتة، كيف قاوموا في دخول الدبابات، بزرع مسامير على الطريق، إلى أن استطاعوا بناء الحواجز... وكيف قاموا بالاحتفاظ ببعض رجال الأمن الذين سلموهم للسلطات، واستطاعوا أن يأخذوا بدلاً عنهم عدداً من معتقليهم... لكن لحظة واحدة كانت تمر على كل واحد منهم... لتراه يتنفس الصعداء... لم أسأل أي أحد، إلى أن دخلنا إلى منزل صديق آخر... وتعرفنا إلى عائلته... كان والده حزيناً... على عكس الجميع... "لن يتركوننا بحالنا... أخاف أن تكون الليلة آخر ليلةٍ قبل أن يقدموا على فعلة مجنونة.."... "لماذا تشعر بالخوف يا عم؟"... سأله أحد الشباب.."إنها الجمعة الأخيرة قبل رمضان... أنا أعرفهم جيداً... لن يحتملوا كل هذا الزخم... هؤلاء قتلوا أخوتي وأصدقائي منذ ثلاثين عاماً... ولن يتوانوا عن الفعلة ذاتها".... نظرت لوجوه الجميع، خاصةً ممن هم أبناء المدينة... كانت نظراتهم توافقه... وفيها الحزن ذاته... "ماذا ستفعلون؟"... سألتهم صديقتي... "سنحافظ على ثورتنا... لن نحمل السلاح.. ولن نترك المدينة.. لكننا سنحاول منعهم عن الدخول.. لن ينتصروا هذه المرة"... 

عدنا للمنزل الذي يستضيفنا، حيث كانت بانتظارنا مائدة رائعة... وبدأنا جدالنا حول شكل الدولة المقبلة، وعلت أصواتنا على الطاولة، ورغم كل الاختلاف بالآراء إلا أن ما كان يجمعنا هو حلم واحد... دولة ديمقراطية للجميع... سوريا الجديدة... سوريا التاريخ... وانتصار الثورة... 

ساعات قليلة، وقبيل صلاة العشاء، دخل أحد الشباب وقد اصفر وجهه..."هناك إطلاق نار عند مدخل المدينة"... لم نستطع استبيان التفاصيل في الساعة الأولى، وبدأت الهواتف تتوالى... والقصة هي: 
عند الحاجز الأول في مدخل المدينة عند كراج البولمان حاولت سيارة الأمن الدخول، فحدثت مناوشات بينهم وبين الأهالي، فأخذ الأهالي السيارة إلى الساحة للتحقق من نواياهم، وفي تلك الأثناء، اقتربت دبابة وخلفها سيارة أخرى، وأطلقت السيارة النار، فأردت شاباً وأصابت حوالي أربع أشخاص بجروح دون أن تدخل هي أو الدبابة، وتم نقل الشباب إلى المشفى على الفور.... 
بدأ التوتر في المدينة... كل شيء تغير... توزع الشباب على الحواجز ، وتم إلغاء المظاهرات... والأخبار تتوالى وتتضارب... إلى أن عاد الهدوء فجأة... 

سهرنا حتى الفجر، وخرجنا على الفور... بعدما كان الجميع قد أدركوا تماماً الخطر المحدق بالمدينة، فأرادوا لنا أن نخرج بأسرع ما يمكن وبأكثر الطرق أماناً... كانت الحواجز خاليةً في الصباح... والمدينة مقفرة تماماً.... والقلوب تنبض بالخوف والتحدي... 

غادرناها صباح السبت... وفي الليلة ذاتها دخل الجيش...
في اليوم التالي أصابت القذيفة الحي الذي كنا فيه... والذي حدثنا فيه والد صديقنا عن مخاوفه... 
لأجلهم جميعاً... لأجل حريتهم... لأجل ذلك المنزل الذي استضافنا... لأجل ضحكة تلك الصبية... وذاك الطفل "المايسترو"... من أجل من أعطانا الماء... ومن أخبرنا حكاياتٍ عن التاريخ... من أجل لحظات الحب التي عشتها في حماة.... سأخرج كل يوم... سأخرج حتى ننتصر... سأخرج لأنك اليوم صرتِ جرحاً ينزف في قلبي وديناً عليّ وفاؤه... وا حماه... وا حبيبتي... إننا قادمون


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق