بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 25 ديسمبر 2010

صليب نازاريت


" صليب نازاريت "
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

بينما تتواصل وتتزايد عملية الهجوم على الإسلام والمسلمين فى العالم الغربى المسيحى المتعصب ، - ولا غرابة فى ذلك فعندما فشل الحلم الذى نسجه مجمع الفاتيكان الثانى ( 1965) بتنصير العالم عشية الألف الثالثة ، وهو ما خصص له البابا الراحل يوحنا بولس الثانى خطابا عُرف تهكماً فى الصحافة الفرنسية باسم "الخطة الخمسية" لتنصير العالم ، وإن كان اسمه الرسمى : "عشية الألف الثالثة" والصادر عام 1995 ، قام مجلس الكنائس العالمى بإسناد هذه المهمة ، فى يناير 2001 إلى الولايات الأمريكية لتنفيذها ، على أنها أكبر سلطة عسكرية أو السلطة المتفردة الغاشمة فى العالم ، فاختلقت مسرحية الحادى عشر من سبتمبر ، من نفس ذلك العام ، لتتلفع بشرعية دولية لإقتلاع الإسلام والمسلمين وفقا للفترة الجديدة التى تم تحديدها لذلك وهى : عام 2010 ، وأطلقوا عليه "عقد إقتلاع العنف " أو الشر ، الذى هو الإسلام فى نظرهم ..

ولا أكتب هذا التقديم من باب السخرية أو اللغو ، وإنما من باب تحديد الموقف والإطار العام الذى يحيط بعنوان هذا المقال.. فبينما تتزايد عملية الهجوم على الإسلام والمسلمين ومحاصرة الوجود الإسلامى فى ذلك العالم الغربى المتعصب، ـ إذ أن هذا الإقتلاع يمثل جزء لا يتجزأ من مشروع العولمة ، الذى يتطلب أن يكون العالم أجمع خاضعا لنظام سياسى ـ إقتصادى ـ دينى ـ حضارى واحد ، حتى تسهل عملية قيادته ، ـ و بينما تتزايد هذه المحاصرة ، وتُمنع أو تُلغى مشاريع إقامة مساجد للمسلمين وإشتراط إلغاء المأذنة حتى لا تبدو للعيان ، وكأنها عورة فجة، مثل ما يدور حاليا فى سويسرا وإيطاليا خاصة .. بينما كل هذا يتم ويتواكب ، تتواصل عمليتان مختلفتان تماما و فى آن واحد ، هما : تهويد معالم مدينة القدس ، وقد فرغ منها تقريبا الصهاينة المحتلون لأرض فلسطين ، وتنصير معالم المدن الإسلامية بإقامة العديد من الكنائس التى أصبح عددها يزيد قطعا على أعداد شاغليها ..

وآخر ما تمخض عنه مخطط تنصير العالم وتنصير معالم المدن الإسلامية هو ذلك المشروع المسمّى : " صليب نازاريت ".. و "نازاريت" بالإنجليزية أو بالفرنسية هو اسم مدينة "الناصرة" فى فلسطين المحتلة.. وقد تم الإعلان عن هذا المشروع منذ فترة للإكتتاب والمساهمة فيه وجمع الأموال اللازمة لإقامته و تزيينه ..

ويبدأ المشروع بتحديد أن مدينة الناصرة " كانت صغيرة ولا معنى لها أيام يسوع. أما اليوم ، فهى تضم أكبر تجمع مسيحى فى الأراضى المقدسة. فهذه المدينة تضم ستين الفا من المواطنين : 35 % مسيحيون و 65 % مسلمون ". ثم يذكر المشروع عدد الزوار الذين يأتون كل عام لزيارة " هذا المكان تحديدا، حيث أمضى يسوع أكبر جزء من حياته وحيث بدأ يبشّر علنا بالكلمة الإلهية ".

ثم تبدأ عملية التعريف بالمشروع ، ويقول النص :
" إن مشروع صليب مدينة الناصرة يهدف إلى إقامة أكبر وأكثر الصلبان تأثيرا فى العالم ، بإرتفاع ستين مترا ، ويضم كنيسة رائعة فى محوره. وستتم كسوة الصليب من الخارج بحوالى سبعة مليون ومائتين الف بلاطة من الموزايكو اللامع ، باحجام مختلفة ، بكتابات بالأختيار. وهذه البلاطات ستصنع بأحجار من الناصرة ، وبالبلاتين ، أو بالفضة أو بالذهب.
" وهذه الكنيسة المذهلة ، بالمنظر البانورامى الذى تطل عليه ، ستقام فى الداخل عند تقاطع عارضتي الصليب ، على مساحة 400 مترا من الأرضية .
" وفى نطاق الخمسة كيلومترات المحيطة بهذا الصليب الضخم ، سيقام مركزا للزوار يقدم لهم منبعا متفردا من الإلهام ، وكذلك نشاطات تعليمية وترفيهية.
" والموقع المركزى للكنيسة وكذلك نسق التنقل بالمونوريل الدائرى سيتيح للسواح الوصول بسهولة إلى الكنائس المسيحية التاريخية، وإلى نافورة مريم والأسواق التجارية بالمدينة.
" كما سيصبح صليب الناصرة أيضا نقطة الدخول إلى مدينة الناصرة ، وهو موقع أثرى يكشف عن الجزء الأقدم من مدينة الناصرة والذى يعيد إحياء الحياة اليومية فى المدينة أيام يسوع " ..
ذلك كان الوصف العام للمشروع ، أما الوصف التفصيلى فيقول :
" صليب الناصرة ستتم كسوته ببلاطات من الموزايكو اللامع بالحجر وبالمعاد الثمينة، (بلاتين ، ذهب ، فضة) . سبعة ملايين ومائتين الف بلاطة من الموزايكو ستكسو هذا البنيان العظيم ، كل منها محفور باسم شاريه. والشارى يمكنه اختيار المادة ومكان وضع بلاطة الموزايكو على الصليب ".

ثم يطالع القارىء البند التوضيحى التالى :
" باقتنائك موزايكو بالكتابة التى تختارها ، فإنك تتقرّب من الأرض المقدسة بصورة متفردة و عميقة. ففى نفس قلب الناصرة ، حيث مريم العذراء قد سمعت أنها حصلت على رضى الرب ، ستكون بذلك قد أعلنت عن إيمانك بالرحمة الإلهية ، لك أو لشخص عزيز عليك ، كما ستكون علامة للأجيال القادمة. كما أنك بذلك ستلهم سكان مدينة مولد يسوع هم والزوار التى تستقبلهم القادمين من أركان العالم الأربعة. وخاصة، ستقوم بتشجيع الحب فى الله والتضحية التى يرمز لها الصليب.
" وبمساعدتك على بناء صليب الناصرة ، فإنك تتوحد مع الرمز العالمى للمسيحية ، فى نفس المكان الذى يقول لنا الكتاب المقدس ان الملاك جبرائيل قد أعلن لمريم العذراء أنها ستلد إبناً وستطلق عليه يسوع ".
وبعد توضيح مزايا الإكتتاب أو الإشتراك ببلاطة من البلاطات الموزايكو ، يواصل البيان التعريف بباقى المشروع ، وهو : " المركز المسيحى " ، فيقول :
" المركز المسيحى المرتبط بصليب الناصرة سيتضمّن متحفا ومساحات ترفيهية متداخلة تسمح بتصور الحياة فى المنطقة منذ الفى عام. كما سيوجد معرض دائم عن تاريخ الناصرة والمسيحية فى الأراضى المقدسة.
" أما الترفيه الرئيسى للمركز فسيكون رؤية متداخلة للمواقع الرئيسية لفترة تبشير يسوع منذ الفى عام. وهذا العرض البصرى الحيوى للأراضى المقدسة أيام المعبد الثانى سيعاون الزائر على التجول بين المواقع الرئيسية للعهد الجديد : بيت لحم ، والجليل ، والقدس كما كانوا عليه أيام يسوع ".

وبعد تقديم مختلف الخدمات التى سيمكن للكنيسة المشيّدة داخل تقاطع عارضتى الصليب ، يوضح المشروع :
" أن مؤسسة صليب الناصرة ستخصص أغلب دخلها " لتدعيم جماعة المسيحيين المحليين ، فالمؤسسة ليست ذات أهداف ربحية وستضع مواردها لتحسين الناصرة إذ ان الرئاسة فيها لقيادات مسيحية من المواطنين. وأن نسبة من 15 % إلى 20 % من الدخل ستخصص للمؤسسات والجمعيات المعنية والتى تهتم أساسا بمستقبل الناصرة ، كتعليم أطفالها وشبابها. وأن 40 % ستموّل سلفيات لمشاريع نسائية ومشروعات صغيرة سياحية. وباسهامكم ستعملون على تدعيم المدينة وسكانها".

وأول ما نبدأ به هوالتعليق على ما جاء من معطيات فى عرض هذا المشروع الإستفذاذى : فإقامة صليب بارتفاع ستين متراً ، أى بارتفاع مبنى مكون من عشرين طابقا ( 60 على 3 ) ، فى مدينة ارتفاعات مبانيها متواضعة وأغلب سكانها مسلمين، حتى لو أخذنا بالنسبة الجائرة المكتوبة ، وهى ثلث مسيحيين وثلثين مسلمين ، فأقل ما يقال انها عربدة استفذاذية ، بحاجة إلى وقفة جادة من كافة المسؤلين ، المسيحيين منهم قبل المسلمين !. فلا يحق لمن هم أقل عددا ، لكى لا أقول أقلية ، ان يوصموا المدينة بطابعهم الدينى الصليبى بهذ الشكل. وإن كان مبتدعى هذا المشروع يعنيهم فعلا تخليد ذكرى يسوع، فمن المنطقى أن يخلدّوا المكان الذى صُلب فيه ـ كما يزعمون ، فى مدينة القدس ، والا يتركونها لقمة سائغة لليهود الذين " قتلوه وصلبوه " كما تؤكد الأناجيل فى عشرات المواضع ، وبدلا من تركهم يهودون معالمها كما يفعلون ، وليس فى مدينة الناصرة المحفوف تاريخها الإنجيلى بالمتناقضات ..

فمن الناحية التاريخية : ان الثابت حاليا فى كافة الأبحاث العلمية ، وكثيرين ممن كتبوها كنسيين سابقين ، أن مدينة الناصرة لم تكن موجودة على الإطلاق أيام يسوع ، وانها تكونت فى اواخر القرن الثانى ، بدليل الخلط الوارد فى الأناجيل يشأن إقامة يسوع ، وهو ما سوف نراه بعدعدة أسطر ، وان من بناها بعد ضياع معالمها هم فرسان المعبد فى القرن الثانى عشر. أما باقية الآثار المسيحية من قبيل كنيسة المهد وغيرها ، فلم تكن موجودة يقيناً أيام يسوع ولا يعرف هو عنها أى شيئ ، مثلها مثل علامة الصليب التى أضيفت إلى المسيحية على مراحل فى الشكل ، وأن من أمر ببناء هذه الآثار هى والدة الإمبراطور قسطنطين حينما ذهبت لزيارة الموقع فى القرن الرابع.

أما ما نطالعه من خلط بشأن مدينة الناصرة فى الأناجيل ، والتى تقع على بُعد أربعين كيلومترا من بحيرة طبرية ، فيؤكد ان هناك خلط واضح فى وصف سكن يسوع ، إذ ندرك من بعض الآيات ان مسكنه أعلى قمة الجبل على طرف بحيرة طبرية ، وهو ما يتمشى مع فكره انه ومعظم الحواريين كانوا من الصيادين ،( وان كان أحد الأناجيل يقول أنه كان نجارا مثل والده) وهو ما يبدو من إنجيل متّى إذ نطالع : " فى ذلك الصباح خرج يسوع من البيت وجلس عند البحر. فاجتمع اليه جموع كثيرة حتى دخل السفينة وجلس والجمع كله وقف على الشاطىء " (13 : 1و2 ). وهو ما يوضح ان بيته على البحيرة وليس على بُعد اربعين كيلومترا.

كما نطالع فى إنجيل لوقا : " وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى " (4 : 16 ) وما أن نصل إلى الآية 28 من نفس الفقرة ونفس الموضوع حتى نطالع : "فامتلأ غضبا جميع الذين فى المجمع حين سمعوا هذا فقاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل الذى كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل. أما هو فجاز وسطهم ومضى وانحدر إلى كفر ناحوم مدينة من الجليل " (28 ـ 31). وهو ما يؤكد بالقطع ، وفقا لهذه الآيات ، ان المدينة التى تربى فيها يسوع على حافة الجبل وكان اليهود يريدون إلقاءه من عليه ، فهرب ! فمن غير المعقول ان يجرجره اليهود لمسافة أربعين كيلومترا لكى يلقوه من على الجبل الى البحيرة. كما ان مدينة الناصرة فى كافة الخرائط تقع على بُعد اربعين كيلومتراً !
وفى حقيقة الأمر ، فإن الأناجيل لا تقدم شيئا عن تفاصيل حياة يسوع أكثر من انه وُلد فى مكان مختلف عليه ، وفى مدينة مختلف عليها، وفى تاريخ مختلف عليه أيضا. وبخلاف عملية الميلاد هذه ، فلا توجد اى معلومة بعد ذلك سوى انصرافه مع العلماء فى المعبد وكان فى الثانية عشر. وهى واقعة يشكك أكثر العلماء فى مصداقيتها. وأيا كانت صحتها من عدمها ، فلا يظهر يسوع بعد ذلك إلا وهو فى الثلاثين ليبشر ويعالج ، فى فترة مختلف عليها أيضا فهى من بضعة أشهر إلى ثلاث سنوات. وفيما بين سن الثانية عشر ، لو إفترضنا صدق الآية ، وسن الثلاثين ، فلا الأناجيل ولا الكنيسة برمتها و بكل مؤسساتها تعرف عنه أى شىء !! فبأى حق يقومون بتنصير معالم مدينة ثلثين سكانها من المسلمين ، بهذا الشكل الصارخ لكى لا أقول المنفّر. كما لا يحق لمخترعى ذلك المشروع تغيير المدخل التقليدى للبلدة وجعله يبدأ من عند ذلك المارد التنصيرى.

ولا يسع المجال هنا لتناول كل الفريات الواردة بالنص الذى يعرض المشروع، من قبيل ان مريم سمعت بنبأ البشارة هناك ، والبشارة تقول ان اسمه "عمانويل" ، ورغمها أطلقوا عليه "يسوع" ، - وهو ما يكشف من جهة عدم إيمان ذويه بالبشارات ، ومن جهة اخرى استمرار عملية التزوير فى الوثائق الكنسية.
كما ان استخدام دائرة قطرها خمسة كيلومترات ، المحيطة بهذا الصليب، لإقامة مركز للزوار ونشاطات اخرى ، فذلك يعنى ان المشروع سيجور على اراضى مسلمين : فالسكان هناك ، كما فى اى مدينة، متداخلون ، فبأى حق يتم هذا الإستيلاء؟
ولا أقول شيئا عن الأسلوب الإستجدائى الإغرائى الذى يذكرنا بأيام صكوك الغفران ومهازلها ، ولا عن البذخ الممجوج الذى يُعلن عنه لكسوة ذلك المارد ببلاطات من البلاتين والذهب والفضة ، فى الوقت الذى يموت فيه الفلسطينيون جوعا وعطشا من الحصار المفروض عليهم ، وفى الوقت الذى يموت فيه ملايين الأطفال فى جميع انحاء العالم جوعا وعطشا ، وفى الوقت الذى تحصد الأوبأة والأمراض ملايين البشر..
وما أبعد ذلك البذخ اللا إنسانى عن تعاليم يسوع ، الذى يزعم المشروع تخليد ذكراه ، فهو الذى كان يوصى تلاميذه وحوارييه بالتقشف والإبتعاد عن البذخ ، بل كان حتى يوصيهم بعدم التزود بالطعام ، اى ان يعيشون على الكفاف وعلى ما يجود به لهم الناس.. ومن الغريب ان تكون نفس هذه النقطة : البذخ الصارخ للكنيسة ورجالها هو نفس السبب الذى أدى إلى إنقسامها وانشقاقها إلى كل تلك الفرق التى جاهدت هى لإقتلاعهم ، وقتلت منهم بالفعل الملايين على مر العصور ، لكن من الواضح أن رسوخ التعصب الفاتيكانى أقوى وأعتى من أن يرتدع من تجارب التاريخ ، أو حتى من تجارب تاريخه الدامى ..
ولا نرى اى سبب او مناسبة لإقامة مثل هذا العته التعصبى إلا دخول الفاتيكان فى عملية سباق مع اليهود ، مع أولئك اليهود الذين خرج من دينه لكى يبرئهم فى مجمع 1965 .. عملية سباق مع الصهاينة لإثبات الوجود المسيحى فى مقابل عملية تهويد القدس وضياعها من السيطرة الفاتيكانية ..

لذلك اتوجه إلى كافة العقلاء من المسيحيين والمسلمين ، الرسميين منهم والمدنيين ، للعمل على إيقاف تنفيذ هذا المشروع الذى لن يمر يقينا بلا عمليات تطاحن وصراعات ما أغنانا جميعا عنها...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق